والدي علي الغانم
والدي العزيز كما هو الحال مع والدتي حفظهما الله لا يمكن أن أصف أو أحصي أفضالهما علي و هذا الأمر بديهي جداً فهما العطوفان و الحريصان على متابعة أحوالنا الشخصية بشكل كبير لي أنا و أخوتي لا زلت أذكر عندما كنت في المرحلة الثانوية وخاصة السنة الأخيرة كنت أظل أسهر كثيراً للمذاكرة و لكني لم أكن وحدي بل إن كليهما كانا يتناوبان متابعتي فبين الفينة و الأخرى يأتي أحدهما يطمئن على أحوالي ليحثني للخلود للنوم،و حتى خلال سنوات الدراسة الجامعية و في فترة الصيف كانا دائما المتابعة لنا و عن أي عارض بسيط يصيبنا ، فمثلاً لو سمع أي منهما أحداً منا يسعل و لو صدفةً ،فلا يهدأ لهما بال و يظلان في حالة من القلق و الإلحاح لكي نذهب للمستشفى ..
والدي هو أحد أهم مقرؤوا القرآن في قرية باربار مسقط رأسه كما هو الحال بالنسبة لي، وهي أقرب ما تكون مهنته التي أحترفها منذ الصغر فصار يمتلك صوتاً قوياً بطبقة رجالية عالية أقرب ما تكون للتينور، كما كان رادوداً في مواكب العزاء ثم صار أيقونة موكب (ذا الجناح) الذي يتقدم موكب عزاء العاشر من محرم في القرية حتى الآن،هو الآن قييم و مؤذن مسجد العبدالصالح (تطوعياً).
في الأيام الخوالي حيث كنت أقيم معهم في المنزل كان من المعتاد من والدي أن يحضر إلى المنزل بعد صلاة المغرب ليجلب العشاء و ليطمئن على أحوالنا ثم يغادر المنزل دون أن يتعشى حتى ليودي دوره في قراءة الحديث (وهي استهلال ) المجالس الحسينية، فلا نكاد نراه في ذلك الوقت إلا لوهلة،عندما يطل علينا في الغرفة لتفقد أحوالنا، إلا أن ما حدث ذلك اليوم كان امراً إستثنائياً جعلني في حيرة من أمري و لم أجد له تفسيراً إلا بعد حين ..؟
حدث ذلك بعد يومٍ واحدٍ من تقديمي أمسيتي الموسيقية الأولى بنادي باربار ،في 15أكتوبر1990 و كانت بمناسبة يوم الموسيقى العالمي حيث عزفت بمفردي في ذلك الحفل أعمال للفلوت المنفرد، لقد كان الحضور الجماهيري كبير فقد امتلأت القاعة و كان عدد من الجمهور واقفين و كان من بين الحضور الفنان الراحل مجيد مرهون الذي كتب مقطوعة للفلوت مهداة لي خصيصاً لكي أعزفها في هذا الحفل، كانت ردات الفعل جداً إيجابية ولا زلت أذكر كلام رئيس اللجنة الثقافية بالنادي يوسف فاخر عندما جاء لي خلف الكواليس قبل فتح الستارة ليخبرني وهو منبهر بقوله :" القاعة امتلأت تماماً بضيوف من خارج القرية ...أرجوك أرفع رأسنا عالياً "
انتهت الحفلة و في اليوم التالي كنت في حالة نفسية عالية جداً لما حققته من نجاح في تلك الأمسية، حتى جاء المساء و صادفني هذا الموقف .
في ذلك المساء كان يقام إحتفالاً بأحد قاعات القرية و كان من الطبيعي حضور والدي لتلك الفعالية و لكن ما حدث كان أمراً مختلفاً فبعدعودته من صلاة المغرب ظل جالساً في المنزل على غير عادته،رأيته جالساً في وسط الصالة في المنزل يتناول عشاءه وهو شارد الذهن،حتى إنني كنت أهم بالخروج من المنزل للذهاب للنادي و لكن منظره جعلني أبادره بالسؤال : " ألن تذهب لحضور الإحتفال يا أبي؟" ..رد علي بشكل مقتضب : "لا يا ولدي" دون أن ينظر إلي حتى ..خرجت و أنا لا زلت في حالة من الدهشة لهذا الموقف .
في الطريق إلى النادي مررت على المكان الذي يقام به الإحتفال،و من مكبر الصوت سمعت أحد المتحدثين يتحدث بعصبية و يتناول موضوع أمسيتي الموسيقية فتوقفت جانباً لأسمع ما يقول،و مما أدهشني في قوله و لا زال عالقاً في ذاكرتي هذه الكلمات : "..كيف تسمحون لهم بإقامة حفلات الرقص و الموسيقى بالقرية ؟ .. " ، لقد أزعجني و أذهلني هذا التجني و لكن ما آلمني أكثرهو تذكري لوالدي و حاله الذي رأيته فيه قبل قليل، حيث أدركت حينها سبب جلوسه بالمنزل و كأنه كان يعلم مسبقاً ما سوف يحدث لذلك آثر أن يقبع جالساً في البيت خشيةً من هذا الموقف،لقد آلمني هذا الموقف و أفسد علي سعادتي و نشوة نجاحي، حيث شعرت لوهلة بأنني كنت سبباً في جعل والدي في بهذا الموقف.
والدي و بالرغم من معارضته لي لدراسة الموسيقى في بداية الأمر بعد تخرجي، إلا أنه و بعد أن شاهد مشاركاتي و ظهوري في وسائل الإعلام و الصحافة بشكل مرموق، ظل متابعاً لمشاركاتي و يسأل عن نشاطاتي القادمة على الدوام،هذا الأمر هون علي كثيراً إحساسي بالذنب تجاهه بعد ذلك الموقف .