ابن القاسم القادم …
بقلم : أحمد الغانم
لقد كان الجمهور المهتم على موعد مع أمسية موسيقية قيمة ، خفيفة وجميلة في نفس الوقت ، اضطررت الذهاب باكراً ، على الرغم إنها ليست من عادات العرب ، ووجدت القاعة شبه خالية إلا من الفنيين والعازفين ، وأثار في هذا الأمر تساؤل : ترى ألن يكون هناك حضوراً مشجعاً ؟ ربما فالليلة هي مساء السبت ، وربما لن يجد الكثيرون الوقت لتمضيته مع الموسيقى .ولكن عندما قارب الوقت وتجاوزه الموعد المحدد لها كالعادة ، بدأت القاعة تضج بالحضور ، حتى أني اضطررت للوقوف إفساحاً المجال لآخرين ، ورغم ذلك فقد كنت أترقب الشيء القادم ، وبعدها لم أندم .
نعم فقد كان الحضور كبير ، أكثر من المتوقع حتى لدى منظمي الأمسية ، مما جعل الحائط الخلفي للقاعة استراحة جيدة للواقفين أمثالي ، وفي الحقيقة حتى لو أنه تم ملء القاعة بما تستوعبه من الكراسي فلسوف يكون هناك عدد من الواقفين ، والملاحظ تميز هذه الأمسية بكون غالبية الحضور من البحرينيين ، وقلة قليلة كانت من الأجانب ، لم تكن هناك أوراق خاصة ملصوقة على الكراسي الأمامية ليكتب عليها (محجوز ) ، وقد تواجد من يحتاج إلى ذلك !
الحديث السابق يتعلق بالأمسية الموسيقية التي أحياها ثلاثة من الشباب البحريني الواعد ، حسن حداد على آلة العود ، حسين أسيري على آلة القانون ومحمد حداد على آلة البيانو في مساء السبت الموافق 17 من يوليو الجاري ، بتنظيم من قبل إدارة الثقافة والفنون .
تنويعات
بدأت الأمسية بمجموعة من المقطوعات على آلة العود أداها الفنان حسن حداد ، وعدا رقصة العروسة لمارسيل خليفة والبنت الشلبية صياغة شربل روحانا والقدر للفنان نفسه ، فقد كانت غالبية الأعمال لسيد درويش وهي عبارة عن تنويعات لألحان تلك الأغاني ، ومنذ الوهلة الأولى عندما تستمع لريشة حسن حداد ، فإنك تجد مارسيل خليفة حاضراً في مخيلتك ، وإن افترضنا إن هذا الأمر ناتج لكونه يعزف عملاً لمارسيل نفسه في بداية البرنامج ، فإننا لن نشك أبداً في التأثير الكبير لمارسيل في طريقة عزف حسن للمقطوعة التالية ( الحلوة دي ) لسيد درويش، ومن ثم ما تلاها من مقطوعات .ولكن حب حسن حداد لتنويع على الألحان لم يتوقف عند الأغاني العربية ، لا بل إنه يتعداها إلى الموسيقى الكلاسيكية الغربية وحتى موسيقى الجاز ، وكم وددت منه لو أنه عزف الإعداد الذي قام به لموسيقى الشخصية الكرتونية المعروفة (PINK PANTHER ) ، التي سمعتها منه منذ عام مضى في أمسية خاصة به في مركز شباب الشاخورة ، لقد كانت رائعة بالفعل ، حيث استطاع أن يطعمها ببعض النغمات الشرقية ليضفي عليها جواً آخر من الظرافة ، أما في هذه الأمسية فكانت المقدمة الموسيقية للسمفونية (40) هي مسرح تنويعاته .
المقطوعة اليتيمة التي كانت من تأليف حسن العازف نفسه هي الأخيرة ولقد أسماها ( القدر ) ، وكانت كما أسماها درامية نوعا ما ، بدأها بنغمات متقطعة ومتتالية ثم بعدها صار يبني على كل نغمة منها مقطع لحني ، ليكون المقطوعة ، لقد أجاد الفنان حسن حداد في ما قدم ، وتبقى وجهة نظر ، وهي لو استطاع تقليل وقت التنويعة الواحدة وتكثيفها ، مما يجعل المستمع والمشاهد حاضراً على الدوام مع ريشته .
لحظات مع الكلاسيكية العربية
الفنان الشاب حسين أسيري على آلة القانون كان سلطان الطرب في الفقرة الثانية ، عندما أدى ثلاث من الأعمال الكلاسيكية العربية بإتقان ، كانت الأولى مقطوعة نهاوند لمحمد عبد الوهاب والثانية كما جاءت في البرنامج سماعي بياتي لإبرا هيم العريان ولكن حسبما صرح في حديث صحفي فإنها ل( صفر علي ) ؟ ، أما المقطوعة الثالثة فكانت نماذج من مقدمات أغاني أم كلثوم .
كانت مهارة أسيري في تمكنه من العزف على آلته واضحة جداً ، اعتبرتُ فقرته ( استراحة الواقف ) ، فحينها انفردت جانباً في إحدى الزوايا المعتمة من القاعة حيث عثرت على كرسي ، لأستمع لتلك النغمات النقية وأستمتع بها وهي تنساب إليّ من بعيد ، كم كانت لحظات ممتعة ، أن هذا الشاب لم يبدأ العزف على هذه الآلة إلا في فترة متأخرة ولكنه اليوم يمتلك من مهارة العزف عليها الشيء الكثير ، وما أثار استغرابي إن دراسته الموسيقية الحالية هي في قسم الأصوات ..ترى هل يفاجئنا بمهارة أخرى ؟
لقد صاحب أسيري على بعض الآلات الإيقاعية العربية الفنان البحريني المعروف في هذا المجال (ثاني سالم )، وأنه لمن المؤسف أن يتم تجاهله في الورقة المطبوعة للبرنامج ، إن ذلك يعتبر إبخاساً لحق هذا الفنان ، وعلى الرغم من أنه يحدث في غالبية الأحيان بالنسبة لعازفي الإيقاع ، ولكن هذا الأمر يجب أن لا يغيب عن ذهن منظمي الأمسية .
إبن القاسم القادم ..
الفقرة الأخيرة كانت ل( محمد حداد ) عازف العود ، والبيانو ..المؤلف الموسيقي الواعد .. اهتمامات بالمسرح ، هذه بعضٍ من مواهبه ..عندما تجده قادما إليك فإنك تنتظر منه شيء ما ، مختلف عن المألوف ، قد يكون جديد ، أو باعثاً الحياة من جديد في أمر ما .. هذا ما فعله في تلك الأمسية .
كانت مقطوعته الأولى تحت اسم ( اليز دائماً ) وملحقة كما في ورقة البرنامج ب( إرتجالات على لحن بيتهوفن ) .. يثيرك هذا الاسم إلى الذهاب للمقطوعة المشهورة لبيتهوفن ( إلى اليز ) ، وعندما يبدأ العزف تقبع تراقب أصابعه زمناً علك تجد ما يوحي بأنها المقطوعة المعنية ، ولكن دون جدوى ، وهو ما يبعث في نفسك الشك في فراستك وفي قلة معلوماتك الموسيقية ، فتظل تسائل نفسك : ترى كم هنالك من الأليزات توجد في موسيقى بيتهوفن ؟ .. وتظل هكذا وأنت تستمع إلى التآلفات المناسبة عالياً هنا وهناك ، كما هو الحال في المقطوعة المعنية ، حتى يختمها بالمقدمة المميزة لتلك المقطوعة الرائعة .. لترتاح بعدها نفسك وتعرف أنك وقعت في فخ موسيقي نصبه إليك هذا القادم ،..هل نطلق على ذلك خبث موسيقي ؟ على أي حال فأنه رائع ..
المقطوعة الثانية كانت تحت اسم صديق القمر وهي من تأليف محمد ومهداه إلى أخيه مهيار .
الزفاف الدامي ( رؤية جديد للحن شعبي ) ، كانت أكثر الأعمال درامية له ، بداية تسمع المقدمة الموسيقية ل ( مارش الزفاف ) للمؤلف الألماني (ريتشارد فاجنر) ، ليشعرك بأن ثمة عرس ما قادم من بعيد ..لا تكاد تراه حتى يتلاشى أمام لحن شعبي ، دامي و بنفس الخصوص ، تجد نفسك في وسطه وهو يتردد حواليك ..
رغم قصر اللحن وبساطته ، فلقد تعامل هذا المؤلف الواعد بذكاء ومهارة ..قد يبعث التساؤل والحيرة في أنفس الكثيرين ممن سمعوه أولاً في وضعه الأصلي .
كاسر الوقت للعود والبيانو هي المقطوعة الأخيرة في هذه الأمسية وهي من أداء وتأليف( الحدادين) محمد وحسن ويبدو إن اللقب كان له أثر كبير بالنسبة لهما في هذه المقطوعة ؟ .. عندما علمت بالتجربة أول الأمر خشيت من مدى نجاحها ، وتساءلت عندها أين الموازنة بين الآلتين فعلى أقل تقدير بالنسبة للصوت ؟ .. فصوت البيانو قوي لدرجة أنه يطغى على القاعة دون حاجة لأي مكبر صوت وهو الأمر المستحيل بالنسبة للعود ، ولكن ذكاء المؤلف داخل ( أبن القاسم ) ، أكبر من تقف أمامه تلك المعضلة ، لقد جعل النغمات الصادرة من البيانو في بداية المقطوعة كما لو أنه ( جسر الماء ) الذي تحدثه صخرة صغيرة على صفحة ماء هادئة ، ملقاة بشكل أفقي وسريع ، فصوت البيانو كان كما لو انه الجسر لنغمات العود بتلوين و تأثير جميل ، ثم يتوقف العزف على العود كما لو أن الصخرة سقطت في العمق ، ولكن الأمواج الصغيرة لا زالت تتابع مع آلة البيانو ، وما أثار دهشة الجميع قيام حسن بوضع العود جانبا ً وهو الأمر الذي أعطى انطباعا بأن دور العود انتهى أو أن المقطوعة شارفت على الانتهاء ، ولكن بهذه السرعة ؟ ..كل ذلك ومحمد متواصل في عزفه على البيانو ولكنه يتوقف بعد حين ، ترى هل تلاشت الأمواج ومعها المقطوعة ؟.. وقبل أن يهم الحضور بالتحية فإذا بحسن يقطع عليهم (الصمت قبل التحية ) بطرقه ضرب أعرج على فخديه ، ثم تجاوباً مماثلاً من قبل محمد ليندمج الاثنان في ثنائي (للأيدي والأرجل) ..وعندما يتم ترسيخ هذا الضرب الذي كما يبدو شرقياً أعرج قد يكون (5/8) أو ( 7/8) يشابه لضروب التي يتناولها الفنان ( ياني ) في موسيقاه ، بعدها يعاودان العزف على آلتيهما تحت ظل هذا الضرب ، ولا يتوانى حسن فى لمس بعض النغمات الشرقية على الرغم من خطورة الأمر مع تواجد التآلفات من البيانو ،ولكن الحذاقة التي يمتلكانها مكنتهما من تجاوز كثير من الأمور ليختما المقطوعة والبهجة تعم كل الحضور .. تحية لهؤلاء الفنانين .
الجمعة، 23 يوليو، 1999