الأغنية الخفيفة
يمتعض البعض عند سماع الأغاني العصرية الجديدة لدرجة أنه يستنكرها ولا يرى فيها سوى إنها ابتذال باسم الفن ، وعلى الرغم من واقعية هذه النظرة في بعض الأحيان إلا إن البعض يعمم هذا النظرة على جميع الأغاني دون تمييز، قد تأتي هذه النظرة من منطلق قناعة لديهم بأن الأغاني القديمة والتي تمتاز بالجدية والوقار هي الأفضل ، في حين إن كل ما استجد الآن قيمته الفنية معدومة .
إن طبيعة الحياة الآنية وسرعتها انطلت على جميع نواحي الحياة فصار الإنسان يفضل في بعض الأحيان -إن لم يكن في غالبية الأوقات- ، تناول الوجبات السريعة والخفيفة بينما يقوم بقضاء أعمالاً أخرى ،على الرغم من تفضيه للوجبات الدسمة ولكنها (الأخيرة) تتطلب منه التفرغ والتركيز .
لقد سار هذا الوضع على جميع نواحي الحياة فترى الإنسان يقوم بأكثر من عمل في آن واحد، متناسياً مدى جودة هذا العمل الذي يقوم بتأديته و بالطبع لم تكن الفنون بمنأى عن هذا المسار فصار الإنسان يتناولها وهو يقوم بأعمال أخرى أيضاً .
الموسيقى هي إحدى عناصر الحياة التي يحتاجها الإنسان بشكل كبير ولقد أطلق عليها البعض أنها (غذاء الروح) ، وقد تكون هذه المقولة حقيقة واقعة بالنسبة للكثيرين، فلا يمكنه الاستغناء عن سماعها بأي حال من الأحوال بطريقة أو بأخرى ، ولأن الموسيقى مثلها مثل أي شيء آخر في هذه الحياة فلقد تنوعت و تطورت مسايرة العصر التي هي موجودة به ،لذا ظهرت لنا ما يسمى بالموسيقى الخفيفة ومنها جاءت الأغنية الخفيفة، وفي هذا المقال سوف نتطرق لبعض اوجه المقارنة بين كلا النوعين من الأغاني وفي هذا السياق نذكر الأمور التالية :
-
الكلمات : بالنسبة للكلمات في الأغنية الجادة ( إن صحت التسمية )، وهي الأكثر كثافة وعمق ، فنجدها ذات معاني ومفردات تحتاج من المستمع التمعن والتفكير فيها ، حتى يستطيع استيعابها ولكن بالنسبة لكلمات الأغنية الخفيفة فالأمر يختلف فالكلمات هنا على درجة من البساطة تمكن المستمع من التقاطها من أول استماع أحياناً ، على العكس في حالة الأغنية الجادة والتي سوف يكون الاستماع المتكرر لها مطلوب .
-
الألحان : في الأغنية الجادة كثيرة ومتنوعة وقد تكون أحياناً طويلة ، كما أنها قد تنتقل بين عدد من المقامات الموسيقية وذلك مسايرة و دعماً للجو العام للكلمات الملحنة ، أما بالنسبة لألحان الأغنية الخفيفة فهي على درجة من البساطة تجعل المستمع يلتقطها وقد يددنها من أول استماع وهي في الغالب تسير في مقام موسيقي واحد إن لم تقتصر على درجات محدودة لا تغطي أبعاد السلم الموسيقي الواحد، كما تمتاز الأغنية الجادة بتنوع المقاطع الموسيقية بين الفقرات الملحنة ولكن هذا الأمر غير موجود في الأخرى فيكون هناك فقط لحن واحد يتكرر بين كل مقطع وآخر .
-
الموازين الموسيقية :أصبح من الدارج أن يطلق عليها الإيقاعات و ليس المقصود بها آلات الإيقاع المستخدمة ولكن الموازين التي تدور فيها الألحان ففي الأغنية الجادة نجدها تتنوع وتتباين بين مقطع وآخر وذلك لنفس سبب تنوع الألحان ولكن الإيقاعات المستخدمة في الأغنية الخفيفة رتيبة وتكرر طوال الأغنية ، وهذا الأمر من أهم ما يميز هذا النوع من الأغاني .
-
التوزيع والمصاحبات اللحنية والهارمونية: مع الأخذ في الإعتبار إلى نوع الموسيقى و الفترة الزمنية التي ظهرت فيها تلك الأغنية ،تكون عادة الأغنية الجادة متسمة بتنوع الألحان والمقامات و هي فرصة سانحة للملحن أو الموزع لإستخدام عدد كبير من الآلات في التوزيع لإبراز تلك الألحان بألوان مختلفة ، كما إن درامية الكلمات تستدعي استخدام نسيج هارموني ولحني يتوائم و موضوع الأغنية ، وتبعاً للتنوع المقامي القائم في هذه الأغنية فإن هذا الأمر سوف يصبح أكثر تعقيدا، ولكن يجب هنا استثناء الأغاني التي قد لا تتواءم مع النظام الهارموني مثل الأغاني الكلاسيكية العربية وهي التي تستخدم مقامات ذات ثلاثة أرباع البعد(التون) حيث تصبح معها هذه العملية غير مناسبة دائماً إلا في اضيق الحدود. في الأغنية الخفيفة نجد النسيج الهارموني على درجة من البساطة بحيث إن المستمع قد لا يدركه، والغرض من ذلك هو إبقائه أي المستمع في حالة نفسية واحدة ورتيبة كما يفعل الإيقاع المستخدم بها ، ويمكننا القول إن النسيج اللحني يكاد يكون معدوم ولذلك نجد التوزيع الآلي بسيط أيضاً .
من كل ما سبق يمكننا أن نستنتج بعض الأمور منها أن الأغنية الجادة تحتاج من المستمع الى استماع بتركيز واهتمام تام، يمكنه من استيعاب كل ما يدور فيها من كلمات والحان وتوزيع كما ذكر سابقاً، وقد يتطلب هذا الأمر من المستمع تكرار عملية الاستماع مرات عديدة لإدراك أغنية ما ومن ثم الاستمتاع بها، فإن كنت ممن يستمتعون بهذا النوع من الأغاني فلاشك إنك وجدت نفسك تكتشف شيء جديد في إحدى الأغاني كلما استمعت إليها بعد فترة من الزمن ...ولكن الأغنية الخفيفة هي على درجة من البساطة بحيث تمكنك من الاستماع إليها والاستمتاع بها وأنت في أي وضع حتى و أن كنت منشغلاً بأمر آخر كقيادة السيارة أو الحديث مع آخرين أو الخلود للنوم وغيره،لهذا السبب نجد هذا النوع من الأغاني تحقق الانتشار الأسرع والأكثر بين الناس، ويرجع ذلك أيضا كما ذكرنا في البداية إلى طبيعة الحياة اليومية من انشغال دائم ، لدرجة أن لا يجد البعض الوقت الكافي كي يجلس للاستماع إلى أغنية طويلة تحتاج منه بالإضافة إلى الوقت التركيز والاهتمام، و لكنها أيضاً في كثير من الحوال تكون سريعة النسيان من قبل الجمهور .
بقي أن نقول أن كلا النوعين من الأغاني المتوفرة يوجد منها السيئ والجيد، ولكن بسبب الانتشار الكبير للأغنية الخفيفة فغالبية الإنتاج يصب في هذا المجرى وللأسف فإن هذا الأمر دفع بالكثيرين من عديمي الخبرة والثقافة الموسيقية من خوض تجربة إنتاج هذه الأغاني فكانت النتيجة هي أغاني تفتقر لأدنى سمات الأغنية ، فلا كلمات أو حتى الحان تستحق الذكر، ولكن لا هذا الأمر لا يمنع توافر بعض الأغاني الخفيفة التي تستحق الاستماع والإشادة أيضاً، ولو بحثت فلسوف تجد إن وراء هذه الأغاني الجيدة كّتاب وملحنين ذوي خبرة ودراية كل في تخصصه.
وبسبب التعقيدات التي تحتاجها الأغنية الجادة وهو الأمر الأهم في الحد من انتشارها الكبير و السريع، فنجدعزوف الكثيرون من الخوض في تجربة الإنشغال بها لها خاصة من فئة الشباب، ويرجع ذلك لأسباب عدة منها أن عديمي الخبرة والمعرفة بالموسيقى مثلاً لن تمكنهم مهاراتهم المتواضعة من خوض تجربة كهذه ، وأن جازف أحدهم وفعلها فالفشل هو النتيجة الحتمية ، والسبب بسيط ولا يغيب على بال أحد ( فاقد الشيء لا يعطيه ) .
إن الإنسان بحاجة للاستماع للأغاني (والموسيقى أيضا) الخفيفة بقدر حاجته الى تلك الأغاني الجادة ، كما هو الحال بالنسبة لغذائه ، فإنه يحتاج أحياناً للوجبات الدسمة وأن فرضت عليه الظروف تناول الوجبات الخفيفة .
الجمعة، 24 سبتمبر، 1999