الاقتباس
الاقتباس معروف لدى الجميع على أنها تلك العملية التي يقوم بها شخص ما بالاستعانة بجزء من إنتاج شخص آخر ، وهو مألوف ومشروع شريطة أن يكون المُقتبس نزيهاً وصريحاً سواءً مع المصدر أو مع المتلقي وذلك بالإشارة إلى ذلك الأمر بشكل واضح .وعالم الموسيقى مثله مثل أي عالم آخر فيوجد به الاقتباس ولكن له خصوصياته .ولقد درج لدى البعض أن يطلق على من ينتهج هذا الأسلوب بأنه "سارق " وأن تلك العملية بأنها " سرقة فنية " وعلى الرغم من قسوة هذا الحكم ، إلا إن للموسيقي المقتبس دور فعال في إصداره .
لعل من أشهر الفنانين العرب الذي تعامل مع هذا الأسلوب هو الفنان محمد عبد الوهاب ، الذي وجهت إليه العديد من الانتقادات لكونه استوحى العديد من ألحانه من مؤلفات لعدد من المؤلفين العالميين وبعضها الآخر من فنانين مصريين ، دون الإشارة لذلك .
كانت أولى المواقف التي تعرض لها عبد الوهاب عندما شارك مع عدد من المرشحين لتلحين نشيد للثورة وقد اختير النشيد الذي تقدم به عبد الوهاب ولكن تقدم بعد ذلك الدكتور حسين فوزي باعتراض لدى اللجنة المحكمة حيث أقنعهم بأن لحن عبدالوهاب "مسروق " من موسيقى للمؤلف الإنجليزي " إلجار " ، فحجبت عنه الجائزة ، بعدها تتالت التهم الموجه لعبدالوهاب بهذا الخصوص ومن أشهر الحكايات تلك التي حدثت مع الفنان محمد الموجي ، فقد اعتاد الموجي أن يُسمِع عبدالوهاب ألحان الأغاني التي يقوم بتلحينها ثم يقوم الثاني بترشيح أحد المغنيين لأداء تلك الأغنية ، وحدث ذات مرة بعد أن استمع عبدالوهاب لأغنية من الموجي أنه لم يرشح له أي أحد لأدائها ولكن بعد عدة أيام وجد عبدالوهاب يقدم أغنية بنفس ذلك اللحن مع كلمات أخرى ، و بعد أن غضب الموجي من ذلك ما كان منه إلا أن واجه عبدالوهاب بذلك فإذا برد عبدالوهاب : "..إن الأب عندما يعجب (بكرفات-ربطة عنق ؟ ) من أحد أبنائه .. فإن من حقه أن يستعيره .." ؟!
وقائمة الأغاني التي تناول فيها عبدالوهاب الحان لموسيقيين آخرين ليست بالقليلة ، نذكر منها بعض الأغاني المشهورة مثل ( أهواك وأتمنى لو أنساك ) والتي غناها عبدالحليم حافظ و لحنها مقتبس من لحن شعبي ألماني ، كذلك بالنسبة لأغنية (أنت عمري ) التي غنتها أم كلثوم فإن مقدمتها الموسيقية الطويلة والتي تتكون من مقطعين فالمقطع الأول من تلك المقدمة مقتبس من كنشرتو البيانو والأوركسترا الأول للمؤلف السوفيتي ( أميرروف ) ، أما اللحن في المقطع الثاني فقد أقتبس من لحن للموسيقي الأسباني( أرتو بافان) .
إن لعبد الوهاب نظرة خاصة بالنسبة لموضوع الاقتباس فهو لا ينكر استخدامه له بل يشرعه تحت مبدأ الاستفادة من خبرات الآخرين ولكن مع إصراره وتأكيده لبقاء الروح الشرقية داخل العمل ، ولكن لم يشر أبداً لضرورة ذكر المصدر المقتبس منه ، وهو هنا يكون على النقيض من توجه الرحابنة بالنسبة للاقتباس ، فلقد اعتادوا - سواءً الأخوين أو إلياس وصولاً إلى زياد – على تناول ألحان لمؤلفين عالميين مع وضع كلمات عربية عليها وغناءها كما اللحن الأصلي دون تغير يذكر ، فعلى سبيل المثال أغنية فيروز ( يا أنا يا أنا ) كلمات هذه الأغنية موضوعة على لحن من الحركة الأولى لسمفونية ( موتسارت ) رقم ( 40 )، كذلك فإن أغنية ( لينا ويا لينا ) التي غنتها هدى موضوعة كلماتها على لحن كنشرتو الكمان والأوركسترا ل(مندلسون) ، وآخر تلك التجارب جاءت على يد زياد في أغنية ( لبيروت ) التي غنتها فيروز في البوم ( معرفتي فيك ) فالموسيقى الأصلية لتلك الأغنية هي للفنان الإسباني ( يواخين رودريغو ) .
نجد هنا أن الرحابنة تميزوا بالإضافة إلى الاقتباس الحرفي ، تميزوا بالإشارة إلى مصدر الاقتباس بشكل صريح وواضح فهم لم ينسبوا إلى أنفسهم تلك الألحان ولم يصمتوا لترك الموضوع تبعاً لخبرة المستمع ، ولربما لو سلك عبد الوهاب هذا المسلك لسلم من الكثير من الانتقادات والاتهامات الموجهة إليه .
و زياد الرحباني تعامل مع الاقتباس بطريقة تختلف عن السابقة ونجد هذا في إحدى أعمال البوم ( معرفتي فيك ) والتي تسمى ( الأولى) ، وهذا العمل يمكن اعتباره عمل موسيقي أكثر من غنائي ، فكل الكلمات التي جاءت به هي ( حبيتك ..بالصيف .. بالشتي ..أنا حبيتك ) و هذا الأسلوب يتميز به زياد ، ما قام به زياد في هنا ، هو أنه أقتبس كلمة ( حبيتك ) من أغنية لفيروز غنتها سابقاً وتحمل نفس الاسم ، وتعامل معها بأشكال وطرق مختلفة ومتنوعة ، وهذا الأسلوب هو ما يعرف في عالم الموسيقى بالتنويعات ( Variations) .
الفنان اللبناني مارسيل خليفة أيضا تعامل مع الاقتباس فأغنية ( يا حنى يا قطر الندى ) هذه مقتبسة من أغنية شعبية معروفة ، كما أنه صار يقتبس من بعض أغانيه السابقة لأغاني جديدة وهو ما فعله في أغنية ( سلامٌ عليك ) فهذا اللحن مقتبس من لحن أغنية سابقة له تحمل اسم ( أحن إلى خبز أمي... ) ، وقام بنفس هذه العملية بشكلٍ كبير في عمله الموسيقي ( جدل ) ، ففي هذا العمل تجد الكثير من الألحان التي قدما سابقاً في أغانيه تتردد بين الحين والآخر .
عملية الاقتباس هذه ليست بدعة قدمها العرب في عالم الموسيقى ، بل هي موجودة في عالم الموسيقى منذ أمد بعيد وقد اقترنت بشكلٍ رئيسي بنوع من التأليف يسمى لحن وتنويعاته (Theme and Variations) ، جاءت بدايات هذا النوع من التأليف في القرن الخامس عشر في ما يعرف بعصر ( الموتيت ) ومن ثم أصبح صيغة أكثر رسوخاً في أواخر القرن السادس عشر وبدايات القرن السابع عشر ، وبعدها تعامل مؤلفو الفترة الرومانتيكية معه بشكل كبير و ثري .
في هذا النوع من التأليف يستهل المؤلف الموسيقي عمله باللحن الأساسي ثم يتبعه بعدة مقطوعات تكون عبارة عن تنويعات لحنية وإيقاعية وتلوينية وآلية وغيرها ، يكون محورها الأساسي ذلك اللحن الأساسي،قد يكون هذا اللحن من وضع المؤلف نفسه ولكن عمد عدد من المؤلفين عند التأليف في هذا النوع إلى اقتباسه من مؤلفين آخرين ، ومن الأعمال المشهورة في ذلك ( تنويعات هايدن ) ، التي ألفها (برامز) على لحن مقتبس من هايدن حيث كتبه مرةً للأوركسترا ومرةً أخري لآلتي بيانو ، ومن أجمل الأعمال التي استمعت إليها ذلك الذي كتبه المؤلف الروسي( رخمانينوف) والمسمى ( رابسودي على لحن لبجانيني ) ( Rhapsody on Theme by Paganini ) ، وفيه كما هو واضح أقتبس المؤلف لحناً من عازف الكمان المُجيَد ( باجنيني ) وكتب عليه ذلك العمل الرائع ، الجدير بالذكر أن نفس هذا اللحن الخاص ب(بجانيني) تعامل معه (برامز) في عمل آخر تحت اسم ( تنويعات على لحن لبجانيني) وكان للبيانو المنفرد ، ومن المعروف عن( برامز) استهوائه لهذه الطريقة فقد اقتبس العديد من الألحان من مؤلفين آخرين أمثال (هايدن) و)هيندل) و (شومان) .
هناك أيضاً عمل موسيقي مشهور بهذا الخصوص وهو الذي كتبه المؤلف الإنجليزي ( بينجامين بريتن ) بطلب من وزارة التربية هناك كي يكون الموسيقى المصاحبة لفيلم تعليمي يحمل اسم ( آلات الأوركسترا ) ولكنه أصبح بعد ذلك عمل أوركسترالي خاص بذات نفسه يعزف في حفلات الكونسير ، هذا العمل يحمل اسم ( دليل الناشئة للأوركسترا ) ( The Young Person’s to the Orchestra ) ، هذا العمل عبارة عن تنويعات آلية على لحن ل(بورسيل) .
من هذا كله نجد أن عملية الاقتباس شيء مألوف ومشروع في عالم الموسيقى ، ولكن هلا لاحظنا تلك النقطة المهمة التي وردت في أسماء كل تلك الأعمال وهي التي ذكرناها مسبقا ، فغالبية تلك الأعمال التي ذكرت يحتوي عنوانها على اسم المؤلف المُقتَبَس منه اللحن الأساسي ، وإن لم يكن فإن المؤلف يقوم بتوضيح ذلك في مدونته ، وهذا ما يجب أن يراعي له المُقتبس بشكل أساسي .
مصادر : محمد عبد الوهاب ( حياته وفنه ) ، رتيبة الحفني .
Collen’s Encyclopedia of Music